بقلم المنتصر أحمد
01.11.2024
مقدمة
تاريخيًا، كانت الفروق الطبقية وما ترتب عليها من تباين في توزيع الثروات وسلطة اتخاذ القرار أحد أهم الإشكاليات التي واجهتها المجتمعات، ولا تزال حيث شهدت محاولات كثيرة تهدف إلى تصحيح هذا الخلل، إذ سعى منظرو الحركات الاشتراكية على مر التاريخ الانساني المعاصر، أمثال روزا لوكسمبورغ، أنتونيو غرامشي، إلى تقديم رؤى عميقة لدور الديمقراطية كوسيلة للتغيير الاجتماعي وإلغاء التفرقة الطبقية. وفي سياقٍ آخر، طرح أميلكار كابرال أهمية الجمعيات التعاونية التي تدار من قبل المجتمعات المحلية كآلية لتمكين الطبقات الفقيرة من امتلاك أدوات الإنتاج والتحكم بها، مما يسهم في تعزيز العدالة الاجتماعية.
هذا المقال يستعرض أهمية دمقرطة أدوات الإنتاج كوسيلة للتغلب على الفروق الطبقية، مدعومًا بنظريات ومفاهيم اشتراكية عدة، في محاولة لتقديم نموذج بديل لتنظيم المجتمع بشكل يضمن التوزيع العادل والفاعل للثروات والسلطة.
الدمقرطة كنقطة انطلاق
تعتبر دمقرطة أدوات الإنتاج بمثابة حجر الزاوية في تحقيق التغيير الاجتماعي المستدام تنظر روزا لوكسمبورغ إلى الديمقراطية باعتبارها “محركًا” و”عنصرًا متحركًا” في صلب حركات التغيير الاجتماعي.
الديمقراطية في نظرها لا تختصر في مجرد إجراءات شكلية، بل هي عودة لصورة الديمقراطية إلى أصلها الشعبي وتكريس لعنصر المشاركة الفاعلة في صنع القرارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
في الوقت الذي تعتمد فيه النظم السياسية التقليدية على الفصل بين الدولة والمجتمع، ترى لوكسمبورغ وغرامشي لاحقا أن مستقبل العدالة الاجتماعية يكمن في خلق نموذج اجتماعي يتداخل فيه المجتمع والدولة، بحيث تدار شؤون المجتمع من قبل أفراده الذين يملكون أدوات الإنتاج ويشرفون على توزيع الثروات بشكل عادل وديمقراطي.
الفكرة من وراء هذا الرأي هي جلب المجتمع إلى المقدمة ودفعه للمشاركة العملية والفاعلية في إنتاج وإدارة جهاز الدولة، والجمع بين ما يُنظر إليه على أنه غير طبيعي في الفصل بين المجالات السياسية والاقتصادية والقانونية وإلغاء الانقسام في النهاية إلى الدولة الحاكمة والمجتمع المحكوم مبتدأه بإلغاء العداء بينهما، ثم المشاركة وصولا لحالة إلغاء الانقسام والانفصال بين جهاز الدولة والمجتمع.
إن عملية صنع القرارات التي يتم اتخاذها للناس بشأن مصالح الفرد الخاصة والخضوع الناتج للقيود المصطنعة يمثل مطالبة مركزية أخرى لهذا المنظورانه في أوقات الأزمات العالمية، تدخل وجهة النظر هذه ببطء في الخطاب العام في شكل المطالبة بمزيد من المشاركة في القضايا الاجتماعية وتتلخص الفكرة للوصول إلى ديمقراطية القوى العاملة في ممارسة الديمقراطية في الواقع وتحويلها إلى بؤرة تركيز حركات المجتمعات الانسانية، فيما يتعلق بالبرلمانية التي وصلت إلى حدودها بشكل ملحوظ.
إن الأشكال البديلة لتشكيل إجماع بين جميع المشاركين، والتي تكون عادلة قدر الإمكان، يتم عيشها في الحركات التي تظهر حاليا مرارا وتكرارا، وتُبذل محاولات لوضع مثال للطبقات الاجتماعية الأخرى.
تكمن الرغبة وراء ذلك في تشكيل حركة عالمية تؤيد الديمقراطية والتوزيع العادل للثروة، فضلاً عن المطالبة بالحديث عن مجتمع الفرد وتوضيح الاهتمام المجتمعي.
إن الحقيقة الموضوعية تؤكد لنا أنه لا يكفي إرسال عدد قليل من المقاتلين المزعجين لجهاز الدولة إلى الشوارع لتقديم مطالباتهم حيث تتم محاربتهم بالعنف.
وبنفس المنطق لا يمكن أن تتم معارضة أي هيكل تنظيمي من داخله و به أشخاص “انتهازيون متسلّقون”، وهي النماذج الاجتماعية التقليدية الموجودة في الحياة العملية والسياسية.
يجب علينا أن نفهم أن المطالب الاشتراكية قابلة للتطبيق فقط، إذا كانت مدعومة من قبل الجماهير بهذا المعنى، ويتضح لنا في النهاية أن الديمقراطية مناسبة للحركة.
عليه فإن أشكال الاحتجاج من الإضرابات والتظاهرات الجماهيرية، رغم أهميتها في التحقيق الجزئي للمطالب، إلا إنها كانت ومازالت لها تأثير تعليمي في نفس الوقت للجماهير، وتُساهم في رفع الوعي الطبقي بالحقوق، وعبرها تعمل الحركة الجماهيرية في نفس الوقت على التحضير للتغيير الاجتماعي وتوليده وتخليق الظروف المناسبة لإنتاجه.
يجب أن نكون وصلنا الآن وعبر تجارب المائة عام الماضية، إلى أن مفهومنا للجماهير المستنيرة الواعية، وهو ما يختلف عن فكرة “البناء من أعلى” لبعض مشاريع الدولة الشيوعية.
إن الحاجة إلى القواعد الشعبية وتعليمها في نفس الوقت تؤكد خطر تلقينها وقيادتها عمياء أو مُعمّية خلف قيادات طرحت نفسها كممثلة لأصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير.
وعليه نصل معا لصيرورة منطقية، وهي أن عمل الجماهير الواعية الواثقة من نفسها عبر مجالسها، فقط، لديه القدرة على ذلك التغيير الاجتماعي.
الاشتراكية الديمقراطية كطريق للعدالة
أكدت تجارب التاريخ الحديث أن الديمقراطية الحقيقية ليست فقط تلك التي تُمارس عبر الانتخابات، بل هي تلك التي تضع بيد الطبقات العاملة أدوات التغيير وتمنحهم القدرة على اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم بشكل مباشر. الديمقراطية التي تتصورها لوكسمبورغ مثالا كاحد ابرز المؤطرين للاشتراكية الديمقراطية في العصر الحديث تقوم على تمكين الناس من المشاركة الحقيقية في الإنتاج وإدارة الموارد.
ففي إطار الديمقراطية الاشتراكية، يصبح كل فرد منتجًا ومسؤولًا، ويتحول دور الدولة من أداة للحكم إلى أداة للخدمة المجتمعية. إن هذه المشاركة الشعبية هي التي تحقق ديمقراطية القوى العاملة وتؤدي في النهاية إلى تفكيك الهياكل الطبقية التي تميز بين الدولة الحاكمة والمجتمع المحكوم.
كما تتأتى ضرورة موضوعية أخرى من خلال ربط فكرة إضفاء الطابع الديمقراطي على المؤسسات والشركات بطريقة قيمة مع وجود الحركات الاجتماعية.
هذا أيضا من خلال الابتعاد عن التقسيم الصارم للنظرية الطبقية، والدعوة إلى تقييم الكتلة التحررية بناءً على مطالبهم، وليس على أساس عضويتهم الطبقية.
في الوقت نفسه، يجب عدم تجاهل البحث المادي حول الدولة والديمقراطية على مدى المائة عام الماضية.
مثالا جادلت أريال صالح الاشتراكية الاسترالية بان الأشكال المتنوعة للمقاومة في عصر العولمة والأزمة البيئية بأن القوى العاملىة الصناعية لم تعد “موضوع التاريخ”، بل عمال ما يسمى بالصناعات الفوقية.
في شرح بسيط حول ما يعنيه هذا دون الضياع في التفسير الطويل والاختلافات الكلاسيكية عن التعريفات الطبقية الأخرى.
ذكرت أريال ان ماركس نفسه يمتنع عن توضيح مفهوم الطبقة بوضوح، مستنده على بيرتيل أولمان (1993)، من بين آخرين، حيث يقوم الاخير باستخدامه اعتمادًا على السياق السياسي. لتصل هي لمفهوم أن الطبقة باعتبارها علاقة مادية وارتباطًا واعيًا للأشخاص الذين يشغلون موقعًا مماثلاً في نظام الإنتاج وإعادة الإنتاج.
عليه في مسار تطوير تغير مفهوم الطبقة الاجتماعية في عصر العولمة والأزمة البيئية، نجد ان القوى العاملة الصناعية لم تعد تمثل “موضوع التاريخ” بل عمال الصناعات الفوقية هم الذين يمثلون الطبقة ، مثل النساء في العمل الإنجابي والمزارعون في الارياف والمجتمعات الخلوية وصائدي الاسماك في قراهم النهرية او البحرية .
ان المفهوم الماركسي التقليدي للطبقة الذي يركز على العمل الإنتاجي الصناعي فقط اصبح غير مؤاتي، في حين أن العمل الاجتماعي والبيئي يجب أن يحظى بالاعتراف عليه وبما أن معظم تحليلات الرأسمالية تركز على العمال الذكور، متجاهلةً العمل الإنجابي الذي تقوم به النساء والمزارعون الصغار والسكان الأصليين في المناطق الخلوية والريفية، والذين يشكلون الآن غالبية العمال في ظل الرأسمالية المعولمة.
عليه هناك أهمية لمعرفة وتحليل الاقتصاديات والاعمال البيئية الناتجة عن الأعمال المنزلية والزراعة، التي تشكل جزءًا من الحركة العالمية ضد العولمة و يتطلب هذا تآزر بين الاهتمامات الاشتراكية والنسوية والبيئية، حيث أن العلاقات بين البشر والطبيعة أصبحت موضوعًا متزايد الأهمية في المناقشات الأكاديمية والعلاقات الدولية وأن الحركات الاجتماعية التي تتصدى لأزمة البيئة لا تتلقى الدعم الكافي، و أن الانفصال بين الإنسان والطبيعة لصالح الراسمالية المتوحشة والمعولمة الحديثة أدى إلى تدهور البيئة، حيث أصبحت المعرفة المهنية تُعتبر سلعة منفصلة عن قيمتها الاجتماعية.
في ظل جانب من التحليل الطبقي المتمايز وافتراض العديد من خطوط الصراع الأفقية والرأسية المختلفة بين الدولة والمجتمع المدني، فإن إسناد حركة جماهيرية إلى إحدى المجموعات العديدة التي تسعى إلى التغيير يصبح أكثر صعوبة.
ومع ذلك، فإن التأييد للاشتراكية أو الشيوعية التي تقوم على اتحاد الأفراد الأحرار وهي في حقيقتها “ديمقراطية” هو واجب بقدر ما يجب دعم تطورها من قبل حركة تستند قراراتها إلى الحقوق الديمقراطية، وتهدف إلى توسيع هذه الحقوق سواء كان ذلك بنقلها إلى الفئات المُهمّشة المستبعدة حتى الآن من المشاركة أو فتح مجموعات جديدة في مجالات صنع القرار
التجربة الديمقراطية التعاونية: نحو دمج الاقتصاد بالسياسة
التعاونيات هي الشكل الجماعي الأقوى في الحياة الاقتصادية في عدد من الدول الاوربية والافريقية والاسيوية باشكال متعددة، وهي تنتمي إلى الإرث الثقافي العالمي كاحد نماذج التعاون المجتمعي للانتاج والتعايش منذ المشاعية البدائية تقننت لاحقا وتغيرت اشكالها مع تطور البشرية ولكن تشير بعض المراكز البحثية إلى أن الجمعيات التعاونية بشكلها وتعريفها الحديث نشأت في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر، في سياق التوتُّـرات التي أعقبت الثورة الصناعية، ولديها اليوم أكثر من مليار عضو أو مُـساهم في جميع أنحاء العالم، وتوفِّـر أكثر من مائة مليون فرصة عمل.
وقد تجاوزت عائداتها في السنوات الأخيرة ، التريليون يورو من خلال عملها في القطاعات المختلفة، كالصناعة والتجارة والزراعة والمصارف وشركات التأمين، فيما تنوّعت أنشِـطتها، فشملت حقول الكاكاو في مناطق من جنوب الكُـرة الأرضية ونادي برشلونة لكرة القدم في إسبانيا وصيد الثعابين في الهند وإنتاج جبنة البارميزان في إيطاليا…الخ
وقد عرفت الامم المتحدة الدمعيات التعاونية وكفلت حق تكوينها ووضعت لها سبع مبادئ اساسية حين تستوفيها وتستوفي التعريف الخاص بها تصبح جمعية تعاونية
حيث عرفتها انها هي جماعة مستقلة من الأشخاص يتحدون اختياريا لتلبية احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتطلعاتهم المشتركة، من خلال الملكية الجماعية لمشروع تتوافر فيه ديمقراطية الإدارة و الرقابة.
كما اشارت الامم المتحدة ان قيم الجمعيات العمومية تستند التعاونيات على قيم الاعتماد على النفس، والديمقراطية، والمساواة، والعدالة والتضامن ووفقا للتقاليد التي أرساها مؤسسوا التعاونيات، فإن أعضاء التعاونيات يؤمنون بالقيم الأخلاقية للأمانة والصراحة والمسؤولية الاجتماعية، والاهتمام بالآخرين.
كما صاغت المبادئ التالية لتعتبر خطوط مرشدة يمكن عن طريقها وضع القيم موضع التطبيق
المبدأ الأول: العضوية الاختيارية المفتوحة
التعاونيات منظمات اختيارية، تسمح بانضمام جميع الأشخاص القادرين على وضع امكانياتهم في خدمة الجمعية، وقبول مسؤوليات العضوية دون أية تفرقة سواء في الجنس – رجل أو امرأة – أو في المركز الاجتماعي، أو المعتقدات السياسية والدينية.
المبدأ الثاني: ديمقراطية الأعضاء الإدارية والرقابية
التعاونيات منظمات ديمقراطية يديرها ويراقبها أعضاؤها، وهم يشاركون بحيوية في وضع السياسات واتخاذ القرارات. ويتم مساءلة الرجال والنساء المنتخبين كممثلين أمام الأعضاء. وللأعضاء في الجمعيات الأساسية حقوق متساوية في التصويت (كل عضو له صوت واحد) ويتم تنظيم التصويت في التعاونيات ذات المستوىى الأعلى بطريقة ديمقراطية.
المبدأ الثالث: المشاركة الاقتصادية للأعضاء
يسهم الأعضاء بعدالة في الرقابة الديمقراطية، وفي رأس مال تعاونياتهم، ويعتبر جانب من رأس المال على الأقل مسلكية مشتركة. و يحصل الأعضاء على عائد محدود مقابل رأس المال الذي اشتركوا به بموجب شروط العضوية، ويخصص الأعضاء فوائض عن طريق تكوين احتياطات للأغراض الآتية: تنمية جميعتهم التعاونية، ويكون جانب من هذه الفوائض غير قابل للتقسيم، وجانب كعائد للأعضاء بتناسب مع معاملاتهم، وجانب لتدعيم غير ذلك من أوجه النشاط الذي يوافق عليه الأعضاء.
المبدأ الرابع: الشخصية الذاتية المستقلة
التعاونيات لها شخصيتها المستقلة التي من سماتها العون الذاتي ورقابة الأعضاء. وفي حالة اجرائها تعاقدات مع المنظمات الأخرى، بما فيها الحكومات، أو في حالة زيادة رأسمالها من مصادر خارجية، فإنها تراعي الاشتراطات التي تؤكد ديمقراطية الرقابة للأعضاء وصيانة استقلالها.
المبدأ الخامس: التعليم والتدريب والمعلومات
تتولى التعاونيات تعليم وتدريب أعضائها، والممثلين المنتخبين، والمديرين، والموظفين لكي يسهموا بفاعلية في تنمية تعاونياتهم. كما تقوم التعاونيات باحاطة الرأي العام بطبيعة وفوائد التعاونيات وعلى وجه الخصوص الشباب، وقادة الرأي.
المبدأ السادس: التعاون بين التعاونيات
تخدم التعاونيات أعضائها بأكبر قدر ممكن من الفعاليات، بالإضافة إلى تدعيم الحركة التعاونية وذلك عن طريق عمل هياكلها معا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
المبدأ السابع: الاهتمام بشؤون المجتمع
تعمل التعاونيات على التنمية المناسبة لمجتمعاتها من خلال السياسات التي يوافق عليها الأعضاء.
وفي الواقع، إن الجمعيات التعاونية الأكثر انتشارا و تحقيقا للأرباح، تتركز في الدول الصناعية مثل فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وهولندا وإيطاليا، إلا أن الخمسين سنة الماضية شهدت انتشارا واسعا لهذا النموذج التجاري في أماكن مختلفة من العالم، خاصة في البلدان النامية التي تقع في جنوب الكرة الأرضية مع بعض الاختلافات حول المبادئ المنظمة لها لكن في مجملها تجمع عدد من المشاركين لتوفير منتج او خدمه معينة عبر جهد وتمويل مشترك
ووِفقا لمصادر منظمة العمل الدولية، توفِّـر التعاونيات في جميع أنحاء العالم، فرص عمل تزيد بنسبة 20٪ عمّا توفره الشركات متعدِّدة الجنسيات، كما تعتبر التعاونيات في بعض البلدان الاوربية كالمانيا و سويسرا، المانح الرئيسي لفرص العمل، ضمن القطاع الخاص في البلاد.
“كما أن التعاونيات تمكَّـنت من التغلُّـب على الأزمة الاقتصادية لعامي 2008 – 2009 بجدارة فاقت نظيراتها من المؤسسات المالية”، بحسب قول إيمانويل كامديم، الخبير لدى منظمة العمل الدولية ويقول ان السبب في ذلك، أن “الأعضاء المساهمين في التعاونيات، هم في نفس الوقت عملاء ومُلاك، وبالتالي، يمارسون رقابة أفضل، ناهيك عن حق الجميع في التصويت، بغضّ النظر عن حصّـة الفرد منهم في رأس المال، وهو ما يُـقوّي أنفاسهم ويعطيهم فرصة مناورة أكبر”.
بالعودة الى التجارب الاشتراكية يبرز أميلكار كابرال كأحد المفكرين الذين نظروا إلى الجمعيات التعاونية في دول الجنوب ضمن حركات التحرر في القرن الماضي ويراها كأدوات فعالة لتمكين الطبقات المهمشة وتحقيق الاستقلال الاقتصادي حيث انه اثبت وبالتجربة انه من خلال الجمعيات التعاونية التي تدار من قبل المجتمعات المحلية، يمكن للفئات المهمشة امتلاك أدوات الإنتاج والسيطرة على ثرواتها الخاصة لتوفر بديلاً عن الاعتماد على الشركات الكبرى أو الحكومات المركزية التي كثيرًا ما تكون بعيدة عن مصالح العامة.
كان أميلكار كابرال، لمن لا يعرفه، (1924-1973) كان عالمًا زراعيًا وأحد المفكرين الأفارقة الرئيسيين المشاركين في النضال من أجل التحرير وفي الستينيات وأوائل السبعينيات كان زعيمًا لحركة غينيا بيساو وكابو فيردي من أجل الاستقلال عن الهيمنة الاستعمارية البرتغالية وكان النشاط الفكري والسياسي محوريًا في حياته، حيث سعى دائمًا إلى ربط المعرفة بالعمل الاجتماعي.
كانت التعاونيات تشكل جزءًا أساسيًا من رؤيته الأوسع نطاقًا المناهضة للاستعمار وما بعد الاستعمار لمجتمع مستقل يعتمد على الذات وبصفته مؤسسًا وزعيمًا للحزب الأفريقي من أجل استقلال غينيا والرأس الأخضر، قاد كابرال حركة قوية ضد الاستعمار البرتغالي وطور نهجًا شاملاً للتحرير شمل الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
كان له منطقه المبرر لاهمية التعاونيات ودورها في حراك التحرر الذي يقوده حيث كان يعتقد أن الاستقلال الاقتصادي يشكل أساسًا لتحقيق الحرية السياسية والحفاظ عليها ومن هذا المنطلق سمحت التعاونيات للمجتمعات بتجميع الموارد وتوزيع السلع بشكل أكثر عدالة، وهو ما اعتبره وسيلة لمكافحة العلاقات الاقتصادية الاستغلالية التي فرضتها القوى الاستعمارية على الدول الأفريقية وبما انه من خلال التعاونيات، يمكن للناس التحكم في الإنتاج والتوزيع المحليين، مما يقلل من الاعتماد على الاقتصادات الاستعمارية ويعزز الاعتماد على الذات عليه تعمل التعاونيات كوسيلة اجتماعية لجمع الناس معًا، وتعزيز الوحدة والغرض المشترك داخل المجتمعات كما انه من خلال العمل معًا في التعاونيات، يمكن للمجتمعات تعزيز هويتها الجماعية ووكالتها، وتمكينها من العمل لصالح مصالحها الخاصة, كان هذا الشعور بالتضامن ضروريًا لدعم النضال ضد الاستعمار وكان محوريًا لتأكيد كابرال الأوسع على الوحدة والتماسك الاجتماعي.
بالتاكيد بصفته مهندسًا زراعيًا، كان لدى كابرال فهم عميق للدور الذي تلعبه الزراعة في المجتمعات الأفريقية و لقد رأى التعاونيات كوسيلة لتنظيم الإنتاج الزراعي، وضمان قدرة المجتمعات على إدارة مواردها الطبيعية بشكل مستدام، وتحسين الأمن الغذائي، وزيادة الإنتاجية من خلال التدريب والدعم في التقنيات الزراعية، ساعدت التعاونيات في تحسين الغلة وتعزيز أنظمة الغذاء المحلية.
ومن منطق التوزيع العادل للثروة كان كابرال شديد الانتقاد للتفاوتات الاقتصادية الشديدة التي استمرت بسبب الاستعمار عليه وفرت التعاونيات وسيلة لضمان توزيع أكثر عدالة للموارد والأرباح من خلال منح الناس حصصًا متساوية في المشاريع الاقتصادية وقد تماشى هذا التركيز على المساواة مع رؤيته للاشتراكية، التي تهدف إلى تفكيك الهياكل الهرمية وتعزيز العدالة داخل المجتمع.
“العودة إلى مصدر” الثقافة والهوية الأفريقية برغم ايمانه بهما ومع الاخذ في الحسبان خلفيته الاكاديمية والتقنية كمهندس زراعي يسعى لتطويع الالة لخدمة الحقل كانت التعاونيات بالنسبة له بمثابة مساحات ليس فقط للنشاط الاقتصادي ولكن أيضًا للتعليم السياسي والإحياء الثقافي وبناء الوعي وسط الجماهير وانزاله الى مستوى الحكمة الشعبية.
لقد رأى أنها أماكن أساسية لتنمية شعور قوي بالهوية والمرونة والفخر بالتراث الأفريقي -هذة العناصر التي اعتقد أنها حاسمة في مقاومة الإيديولوجية الاستعمارية وتشكيل مستقبل ما بعد الاستعمار الذي حذر منه و من مخاطر الاستعمار الجديد واستمرار الاستغلال من قبل القوى الأجنبية ختى بعد نيل الدول لاستقلالها عليه كانت التعاونيات وسيلة لتعزيز اقتصاد متجذر في القيم والمصالح الأفريقية بدلاً من الاعتماد على الأسواق الدولية الاستغلالية والاهم في مجابهة الاستعمار وما بعده وفرت هذه التعاونيات الأساس لإنشاء اقتصاد قادر على تحمل الضغوط من جانب المصالح الأجنبية.
في نهاية المطاف، تجاوزت رؤية كابرال للتعاونيات البراجماتية الاقتصادية؛ فقد رأى أنها جزء لا يتجزأ من خلق مجتمع قائم على المساواة والتضامن وتقرير المصير وعكست رؤيته للتعاونيات التزامه بشكل شامل من أشكال التحرير يركز على الناس ويسعى إلى تغيير ليس فقط الهياكل السياسية ولكن أيضًا العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
على العموم كانت تجربة كابرال ترتبط بشكل مباشر بمفهوم دمقرطة الاقتصاد، فبدلاً من أن تكون الثروة تدار من قِبل أقلية صغيرة، يتم توزيع السلطة الاقتصادية على مستوى القواعد الشعبية, هذا التوجه كان في وجهة نظرة يقلل من الفوارق الطبقية ويعزز المساواة عبر إشراك الجميع في العملية الإنتاجية والاستفادة من نتائجها.
دمقرطة أدوات الإنتاج, التحديات والطموحات
عند دمقرطة المؤسسات الإنتاجية، تتاح الفرصة للطبقات العاملة للسيطرة على أدوات الإنتاج خاصة عندما تمتلك المجتمعات المحلية حق ادارة مواردها من زراعه معادن نفط وموارد طبيعية اخرى ، مما يخلق حالة من التوازن في توزيع الثروات والموارد المرتبطة بتنمية المجتمعات المحلية.
على الرغم من الفوائد العديدة لدمقرطة أدوات الإنتاج، يواجه هذا النموذج عدة تحديات فالبنية الاجتماعية التقليدية قد تعيق عملية التغيير، حيث أن بعض الفئات المستفيدة من الوضع الراهن قد تقاوم التغيير الذي يهدد مصالحها كذلك، فإن تطبيق هذا النموذج يتطلب وعيًا جماعيًا وتعاونًا بين جميع أفراد المجتمع تعد مسألة تمويل هذه المؤسسات وتوفير الدعم اللازم لها من العقبات التي يمكن أن تقف في وجه هذه العملية، إلا أن تجربة الجمعيات التعاونية التي طرحها كابرال تشير إلى إمكانية تجاوز هذه التحديات من خلال خلق شراكات داخلية وخارجية توفر الدعم المالي والتقني اللازم من افراد يساهمون في مشروع التحرر العالمي بانتماءهم له.
تشكل دمقرطة أدوات الإنتاج والتوزيع الاقتصادي العادل طموحًا مستدامًا يمكن تحقيقه عبر تغيير جذري في علاقات الملكية، خصوصًا في القطاعات الحساسة كالصناعة والقطاع المالي، ما يهدف إلى تجاوز التركيز الرأسمالي التقليدي على الخصخصة الليبرالية الجديدة، التي باتت تُفرض على الشعوب بشكل يتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية عليه يهدف النظام الاشتراكي المقترح إلى تعزيز الديمقراطية البرلمانية والتشاركية، كأساس لديمقراطية القوى العاملة، بحيث تتنامى الحريات الفردية والجماعية والمشاركة الفاعلة في صياغة القرارات.
عليه لتحقيق دمقرطة أدوات الإنتاج في اشكال الدولة المابعد استعمارية ، يجب تبني استراتيجية شاملة تشمل خطوات تدريجية تهدف إلى إشراك الجميع في العملية الإنتاجية.
خاصة في دولة مثل السودان تمتلك الموارد الطبيعية والقوى العاملة يجب ان يكون مشروع ودور الدولة القادم هو التاهيل التقني للقوى العاملة للمجتمعات المحلية حسب مواردها الطبيعية لتنمية ادوات استخراج تلك الموارد ضمن مليكة المجتمع المحلي لها والاستفادة من فوائض ربحها مع مساهمتها في التنمية المركزية بصورى منصفة لضمان تنمية متوازنة في جميع اطراف السودان بعيدا عن حالة المركزية المضرة التي تضررت منها معظم مالم تكن جل المناطق المنتجة للموارد طيلة السبعين عام الماضية .
تمثل دمقرطة أدوات الإنتاج نهجًا واعدًا لتجاوز الفروق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية يعتمد هذا النموذج على إشراك الجميع في عملية الإنتاج، وتوزيع الثروات بشكل عادل وديمقراطيحيث يمكن لهذا التوجه أن يسهم في خلق مجتمع يشارك فيه الأفراد بشكل متساوٍ في إدارة مواردهم، مما يقلل من التباينات الطبقية ويحقق العدالة.
تظل تجارب روزا لوكسمبورغ وكلارا زيتكن وأميلكار كابرال مصادر إلهام للمجتمعات الساعية إلى تحقيق التغيير الاجتماعي، حيث تقدمان نماذج لدمقرطة المجتمع من خلال إشراك الجميع في عملية الإنتاج وضمان العدالة في توزيع الثروات غير متناسين حقوق المنتجين من المنزل والريف.
تعزيز التمثيل الديمقراطي والسيطرة الشعبية على الاقتصاد
تمثل دمقرطة أدوات الإنتاج خطوةً مركزيةً نحو تحقيق مجتمع عادل، يوفر الحرية الاقتصادية والسياسية لكافة فئات المجتمع، عبر تمكين المجتمعات المحلية، وتوسيع الحريات المدنية، وإشراك الجميع في القرارات المتعلقة بإدارة الموارد وتوزيع الثروات.
من أسس الطريق نحو ديمقراطية حقيقية هي توسيع نطاق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، بحيث لا تقتصر على مجرد الحق بالانتخاب، بل تتجسد في الحق بالاعتراض على قرارات تؤثر في العمال كإغلاق المصانع والإقالات الجماعية يُعتبر ذلك جزءاً من بناء مجتمع يشارك فيه الأفراد في القرارات الكبرى المتعلقة بالاقتصاد والتعليم والخدمات العامة، ما يعزز دور الطبقات العاملة في إدارة مواردها.
كما تمثل البلديات والمجالس المحلية نقطة التقاء الأفراد بالديمقراطية الحقيقية، فهي مستوى إداري وإبداعي يتيح للمواطنين المشاركة الفاعلة في إدارة شؤونهم اليومية، وتهيئة بيئة تتيح لهم تقرير مصيرهم بأنفسهم لذلك، يجب تأطير القانون الدستوري بشكل يمكن البلديات من العمل بشكل مستقل وضمان حصولها على التمويل الضروري.
المصادر
- الامم المتحدة إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية,دراسة حول الجمعيات التعاونية
- قرار الجمعية العامة للام المتحدة ، قرار رقم 136/64
- من أجل ديمقراطية نظرية الفروق الطبقية , أريال صالح يناير 2018
- لوبيس، كارلوس. “أميلكار كابرال وتحرير غينيا بيساو”. مجلة التاريخ الأفريقي، المجلد 25، العدد 1، 1984، ص 37-52.
- تشابال، باتريك. أميلكار كابرال: القيادة الثورية وحرب الشعب. مطبعة جامعة كامبريدج، 1983.
- تعاونيتي | إدارة تعاونيتك الزراعية, مادة تدريبية على موقع منظمة العمل الدولية, 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2022