من الواضح والجلي للجميع، أن الواقع السوداني الآني مضطرب، واضطرابه يقع ضمن أوصاف أخرى لا تقل في درجتها عن مدى اضطرابه ولا يزيد عنها في الدرجة إلا كونه واقعا مشوشا وغير واضح الملامح، يعود ذلك لكثرة المتغيرات الموجودة في معادلته السياسية، مما خلق جواً ومساحةً من الفراغ تحرك العديد لملئها، من ذوي القدرات ومن فاقديها، من ذوي القوة ومن مدعيها، من أصحاب رؤوس الأموال ومن طالبيها. بين كل تلك المتغيرات والتشوهات في موجات حراك الواقع السوداني ومساراته الثورية، تخرج دوما أصوات عدة مخوفة مرة من مصير بعض الدول التي مازالت رغم ما تمر به من اضطرابات تحظى بإمداد كهربائي مستمر وآمن مستتب في كبرى مدنها الشيء الذي يفتقره السودان من عاصمته وصولا إلى أجزاء كبيره منه التي تنتهي فيها المدنية، وكون فيها القتل والبندقية هي محددات قدرتك على الاستمرار. كما تخرج أصوات البعض ممن كانوا يوصفون بالشباب العقلاء ليحفروا خنادق يوزعون فيها صفوف الحراك بين خوارج وأمويين. يوزعون الوطنية على من يريدون باسم الثورة ويمنعنها عمن يبغضون، فأنت انقلابي حينا لأنك انتقدت الانتقالية وساهمت في أن يتحرك العسكر للانقلاب عليها ولا يختلفون في هذا المثل البائس إلا من يلوم المغتصبة في أنها أغرت مغتصبها. وأنت خارجي حين ترفض العودة لنفس الشراكة بنفس الشروط ونفس الأشخاص الذين مازالوا على رأس الحكم العسكري للبلاد منذ وجودهم في لجنة البشير الأمنية حتى الان. القارئ للواقع السوداني الآن يرى استقطاب حاد بين لجان مقاومة وأحزاب وحراكات شبابية وعملية تسوية مع مجموعات النظام القديم من الإسلاميين بتقديم من يظنونهم المعتدلين منهم للواجهة السياسية للتسوية. ويرى الحصيف أشجارا تتحرك حيث تصب معظم التيارات المحافظة على استمراريتها منذ 2013 في مصلحة خط سياسي معين ترجمه البيان الصادر عن الاجتماع رقم 456 لمجلس السلم والأمن الأفريقي حول الحوار الوطني السوداني الذي عقد في 12 سبتمبر 2014. وتتناول هذه التيارات عبر أشخاص عدة دوما مواقف تخدم بنودا بعينها، باتفاق أو بدون، بعلم منهم أو بدون بتنسيق أو بلا تنسيق تجدهم دوما ضمن التجمعات والمجموعات يخدمون نفس المصلحة: ١- تغيير واجهة النظام وليس إزالته بدليل بقاء لجنته الأمنية حتى اليوم على رأس الدولة في الشراكة المنقلب عليها عبر أفراد هذه اللجنة نفسها وتمكينهم لمنسوبي النظام السابق في مناصب وزارية وتنفيذية ومفاصل الدولة ككل، في حين طالت الاعتقالات والبلاغات الجنائية مئات من الشباب الثائر، فأصبح من لم تقتله الطلقة أو تعيقه احتجزته نيابات النظام. ٢- تسويق التسوية السياسية باستخدام مصطلحات براقة شاكلة توحيد جافة قوى الثورة والعمل تحت مظلة واحده مع الجميع بديلا للتغيير الجذري المفترض أنه يعبر عن رغبة العديد من الجماهير التي لم تخلُ منهم الشوارع طيلة الأربع سنوات الماضية الذين يصرون على المحاسبة وإزالة منظومة منسوبي النظام السابق من جذورها. ٣-إعادة إنتاج الإسلاميين عبر المنظومة الخالفة وشباب الإسلاميين الذين لم يتوانوا في سبيل ذلك ان يستخدموا مصطلحات اليسار علانية في مقالاتهم لتقديم مناهجهم الثيوقراطية، فأصبحوا كمن يستخدم أدوات الجراح للفلاحة، فلا فلحوا ولا سلمت الأدوات. ٤- الإبقاء على السودان ضمن اتفاقياته وديونه الخارجية يسبح في فلك المنظومات العالمية التي كانت تتعامل معها الإنقاذ من وراء حجاب ليتحول التعامل علانية مترجم الآن في مواقف تطبيعية وغيرها اقتصادية لم يأخذوا فيها رأي أحد ولا دعم جماهير. ٥- تنفيذ برامج التكييف الهيكلي وإعادة صياغة السودان عبر مبادئ السياسات التحررية الاقتصادية المعولمة، وذلك لتتمكن دول المركز الرأسمالي من شفط موارد البلاد البشرية والطبيعية واستغلاله عسكريا واقتصاديا. ما لم يترك السياسي السوداني أسلوبه في أن يدافع عن الحقيقة التي تَخدِمُه فقط في الوقت الذي يَخدِمه فقط، وأن يترك مبدأ أن تكون جزئية المصلحة العامة أصغر معامل في معادلاته، وتتغلب عليها دوما المصلحة الشخصية أولا ثم المحورية ثانيا ثم الحزبية، وتتوالى بعد ذلك، ما لم يتركوا ذلك مقرونا بتركهم لقصر النظر والاستعجال السياسي، فإننا سنظل نعيد في إنتاج الفشل مرارا. للأسف إن كنت دوما تراهن على الحصان الخاسر فإن المصيبة ليست الحصان وإنما المصيبة في أنك تظل تتبع منهجية خاطئة وجب أن تقوم بتغييرها مثالا لا حصرا (انتخابات 2020 على خطى قرار أمبيكي، التفاوض عقب مجزرة الاعتصام بسقف تفاوض متدنٍّ، قبول الشراكة المعيبة، عدم تفكيك النظام السابق في فترة الانتقالية وأخيرا محاولات ابتزاز الجماهير عاطفيا نحو قبول التسوية وتجريم رافضيها). فالواجب تغيير منهجية الحليل والتفكير لا أن تصف من يحاول أن يعيدك لجادة الصواب بالخوارج والطهرانيين, هناك لجان مقاومة تعمل على مواثيق لتجمع المواطنين السودانيين حولها بدلا عن محاولات استقطابها وتغيير مساراتها واختطافها واجب التنظيمات السياسية أن تنزل من أبراجها العاجية وأن تعمل مع تلك اللجان وتساهم برصيد خبرتها التنظيمية والسياسية لتقديم ميثاق يخدم حقيقة جماهير التغيير الذين يملؤون الشوارع بالضجيج لكيلا ينام نظام الدولة فوق الضعفاء الذين لا يقوون عليه. ألم يحضرهم قول ماياكوفسكي (الذي لسبب غير معروف يرددون اشعاره أحيانا) حول عدم الثقة في المتسلطون حين قال:
كلُّ البارونات.. والكونتات ..
كلُّ البارونات.. والكونتات ..
يعيشونَ في مدنٍ فاخرةٍ مختلفة
يسرقونَ
ويقولون: ( ميرسي ميسيو )
ويغتصبونَ
ثم يقولون: (باردون مدام)
أما أنا فأقول لهم من قصيدة سيد احمد الحردلو
لا تساومْ
بين مظلوم وظالمْ
لا تساومْ
حين يأتي الثأر يجتاح المظالمْ
لا تساومْ
بين أمر الله في العدل
وهاتيك المزاعمْ
لا تساوم
أيها المذبوح في الوطن المسالمْ
إنهم صبوا عليك الزيت والنارَ..
وخلَّوك جماجمْ
لا تساوم
بين رب الناس –
يا وطني – وأرباب المغانم!
https://www.medameek.com/?p=89189…جميع الحقوق محفوظة لصحيفة مداميك، لقراءة المزيد قم بزيارة